مـــصــيــر الـتـنـــانـيــــن

Tekst
Loe katkendit
Märgi loetuks
Kuidas lugeda raamatut pärast ostmist
Šrift:Väiksem АаSuurem Aa

الفصل الخامس

جلس غاريث على عرش والده في القاعة الكبرى, يفرك يديه على ذراعي كرسي العرش الخشبيتين على نحو سلس, ويتأمل المشهد أمامه. كانت الغرفة ممتلئةً بالآلاف من رعاياه, والناس يتدفقون من كل أطراف الطوق ليروا هذا الحدث الذي يحصل مرة واحدة في الحياة, لمعرفة إذا كان سيتمكن من رفع سيف القدر, لمعرفة ما إذا كان المختار. لقد سنحت الفرصة أن يشهدوا نفس الحدث حين كان والده شاباً, ويبدو أن لا أحد منهم يريد أن يفوّت ذلك الآن.

كانت الإثارة تطفو في جو المكان مثل سحابة.

كان غاريث متوتراً من الترقب أيضاً. بينما يشاهد القاعة تستمر في الامتلاء, المزيد والمزيد من الناس يكتظون داخلها, بدأ يستاءل عما إذا كان مستشارو والده على حق, عمّا إذا كان رفع السيف في القاعة الكبرى وأمام الجمهور فكرة سيئةً. لقد حثوه على المحاولة في غرفة السيف الصغيرة, ونصحوه بأنه حينها إذا فشل بذلك, عدد قليلٌ من الناس سيشهدون ذلك. لكن غاريث لم يكن يثق برجال والده. كان واثقاً بمصيره أكثر من رجال والده القدماء, وأراد للمملكة كلها أن تشهد على إنجازه, ليشهدوا بأنه المختار, حين يحدث ذلك. لقد أراد تسجيل تلك اللحظة في الوقت المناسب. اللحظة التي سيكتب قدره فيها.

دخل غاريث الغرفة متمايلاً, يتهادى بين مستشاريه, يرتدي التاج والعباءة, ملوحاً بصولجانه, كان يريد لكل منهم أن يعرف أنه الملك الحقيقي, وليس والده, إنه ماكجيل الحقيقي. وكما كان يتوقع فإنه لم يمضي وقت طويل حتى شعر أنها قلعته وأنهم رعاياه. كان يريد لشعبه بأن يشعر بذلك الآن, ليكون عرض السلطة هذا على نطاق واسع. بعد اليوم, سيعرفون بشكل مؤكد أنه كان المختار وأنه الملك الحقيقي.

لكن الآن جلس غاريث هناك, وحده على العرش, ينظر إلى المكان الذي سيوضع عليه السيف, مضاءً بشعاع من الشمس يدخل من خلال السقف. لم يكن متأكداً من خطورة الأمر الذي سيقوم به. إنها ستكون خطوة لا تراجع فيها, وليس هناك عودةً إلى الوراء. ماذا لو فشل فعلاً ؟ حاول إبعاد ذلك عن عقله.

فُتح الباب الضخم مع صرير على الجانب الآخر من الغرفة, ساد الصمت القاعة في ترقب. حُمل السيف من قِبل اثنا عشر من أقوى رجال البلاط, كان كل منهم يكافح تحت ثقل السيف. ستة رجال على كل جانب, يسيرون ببطء, يخطون في وقتٍ واحدٍ, يحملون السيف نحو المكان المخصص له.

تسارع قلب غاريث حين شاهد اقترابه. للحظة وجيزة، تأرجحت ثقته, إذا كان هؤلاء الاثنا عشر رجلاً, الأضخم من أي رجال قد شاهدهم في حياته, كانوا بالكاد يستطيعون حمله, فكم ستكون فرصته في ذلك؟ لكنه حاول أن يخرج هذه الأفكار من عقله, في النهاية, كان السيف يحدده القدر وليس القوة. وأجبر نفسه على التذكر بأن مصيره بأن يكون هنا, بكر أبيه, أن يكون الملك. بحث عن أرجون بين الحشد. لسبب ما أصبح لديه رغبة شديدة وملحّة لطلب مشورته. كانت هذه المرة التي شعر بأنه بأمس الحاجة إليه. لسبب ما, لم يستطع التفكير في أيّ شخص غيره. ولكن بالتأكيد, لم يكن من الممكن العثور عليه.

أخيرا وصل الرجال إلى وسط الغرفة, يحملون السيف نحو شعاع الشمس, وضعوا السيف في مكانه ,هبط مع رنة دوت في أرجاء القاعة. و ساد الصمت تماماً.

افترق الحشد بشكل عفوي, مما فتح المسار لغاريث للسير ومحاولة رفع السيف.

نهض غاريث من عرشه ببطء, مستمتعاً باللحظة, و بكل هذا الاهتمام. كان يشعر بالعيون كلها تتجه إليه. كان يعرف أن لحظة مثل هذه لا تأتي مرة أخرى أبداً, حين تشاهده المملكة بأكملها, بتركيز تام, والجميع يحلل كل خطوة يقوم بها. لقد عاش هذه اللحظة مرات عديدة في ذهنه منذ أن كان شاباً, والآن حان الوقت. لقد أراد أن يذهب ببطء.

سار خطوات مبتعداً عن العرش, مستمتعاً بكل خطوة, مشى على السجادة الحمراء, يشعر بنعومتها تحت قدميه, يقترب أكثر وأكثر من أشعة الشمس, من سيف القدر. بينما كان يسير, كان كما لو أنه حلم. كان يشعر بأنه خارج الواقع. شعر جزء منه كما لو أنه سار على هذه السجادة مرات عديدة من قبل, ورفع السيف مئات المرات في أحلامه. لقد جعله ذلك يشعر بأن ذلك مقدر له, وأنه كان يسير نحو قدره.

لقد تخيل غاريث المشهد في ذهنه, سيخطو إلى الأمام بجرأة, وسيمد يد واحدة إلى الأمام, وبينما ينحني رعاياه, سيرفعه فوق رأسه عالياً بشكل مفاجئ. حينها سيشهق الجميع ويتم إعلانه المختار, وأهم الملوك الذين حكموا مملكة ماكجيل, الملك الذي سيحكم إلى الأبد. سيبكون من الفرح أمام هذا المشهد, وسينحني جميعهم خوفاً منه. وسيحمدون الرب أنهم عاشوا هذه الفترة وشهدوا على هذا. سيسجدون ليكون إلهاً لهم.

اقترب غاريث من السيف, أمتار فقط تفصله عنه, شعر بنفسه يرتعش. حين مشى تحت ضوء الشمس, وعلى الرغم من أنه رأى السيف مرات عديدة من قبل, لقد سلبه جمال السيف بشكل مفاجئ. لم يسبق له أن اقترب بهذا الشكل من قبل, لقد فاجأه. لقد كان ضخماً, بنصل لامع, مصنوع من مادة لم يستطع أحدٌ فك رموزها, وكان مقبضه يحوي أكثر زخرفات رآها في حياته, ملفوف بحرير ناعم ومرصع بالمجوهرات من كل نوع, ومزين برأس صقر. حين اتخذ خطوة أقرب نحوه, شعر بقوة الطاقة التي تشع منه. بدأ قلبه يخفق. إنه بالكاد يستطيع التنفس. سيكون في راحة يده خلال لحظات. عالياً فوق رأسه. يلمع تحت ضوء الشمس ليراه العالم بأسره.

إنه غاريث, غاريث المختار.

اقترب غاريث ووضع يده اليمنى على المقبض, أغلق أصابعه ببطء حوله, وهو يشعر بكل جوهرة, حين شعر بكل حجمه في يده, ارتعش. وسرت طاقة شديدة عبر كفه, وصلت إلى ذراعه, ثم عبر جسده. كان شعور لم يجربه من قبل. كانت هذه لحظته.

لم يكن لدى غاريث فرصةٌ أخرى, مد يده الأخرى ووضعها فوق يده اليمنى على المقبض أيضاً. أغلق عينيه, تنفس بشكل ضئيل.

إذا كان هذا يرضي الآلهة, دعوني أرفع هذا. أعطني علامة. تظهرني بأنني الملك الحقيقي. كان غاريث يصلي بصمت, في انتظار رد, إشارة, لحظة مثالية. ولكن مرت الثواني, عشرة ثوان كاملة, والمملكة بأكملها تشاهده, ثم سمع شيئا.

ثم, فجأة, رأى وجه والده, ينظر إليه بوجه متجهم.

فتح غاريث عينيه في رعب, وأراد أن يمسح هذه الصورة من عقله. ارتعد قلبه, كان يشعر بأنه فأل مروع.

كان الأوان قد حان, الآن أو أبداً.

انحنى غاريث, وبكل قوته, حاول رفع السيف. كافح بكل قوته, حتى اهتز جسده كله, وانتفض.

لكن السيف لم يتزحزح. كان ذلك أشبه بتحريك الأرض.

حاول غاريث بشكل أكبر وأكبر. أخيراً, كان يئن ويصرخ بشكل واضح.

وبعد لحظات, انهار.

والنصل لم يتحرك بوصة واحدة.

بدت الصدمة على جميع من كان في الغرفة حين سقط على الأرض. هرع العديد من مستشاريه لمساعدته, ليتأكدوا أنه بخير, وقد أبعدهم غاريث بعنف.

وقف, محرجاً, يجبر نفسه على الوقوف وهو يستعيد قوته.

نظر غاريث حوله, ذليلاً, ليرى كيف كان الحشد ينظر إليه بعد هذا.

كان الجميع قد التفت بالفعل, وذهبوا بعيداً خارجين من القاعة. كان يمكن لغاريث أن يرى خيبة الأمل في وجوههم, استطاع أن يرى أنه كان مجرد فاشلٍ آخر في عيونهم. الآن جميعهم أصبح يعرف أنه لم يكن الملك الحقيقي. أنه ليس المختار وماكجيل المقدر. لقد كان لا شيء, مجرد أمير آخر استولى على العرش.

شعر غاريث بالنار تشتعل في صدره مع هذا العار, لم يشعر بهذه الوحدة من قبل. كل شيء تخيله, منذ طفولته, كان كذبة, و وهم. كان يصدق خرافته.

والآن سحقه حلمه.

الفصل السادس

سار غاريث في حجرته وعقله يترنح, مذهولاً من فشله في رفع السيف, يحاول أن يعالج عواقب هذا الفشل. لقد شعر أنه غبي. لم يستطع تصديق أنه كان غبيً لهذه الدرجة, أنه حاول رفع سيفٍ لم يستطع أحد من أسرة ماكجيل رفعه. لماذا كان يعتقد أنه أفضل من أسلافه؟ لماذا كان يفترض أنه سيكون مختلفاً؟

كان يجب أن يعرف. كان يجب أن يكون حذراً, ولا يبالغ في تقدير نفسه. كان يجب أن يكتفي بعرش والده. لماذا كان يريد أن يحصل على أكثر من ذلك؟

الآن عرف كل رعاياه أنه لم يكن المختار. الآن سيفسد هذا حكمه, الآن, ربما سيكون لديهم المزيد من الأسباب للشك بأنه قاتل والده. لقد رأى بأن الجميع نظر إليه بشكل مختلف, كما لو كان شبحاً, كما لو أنهم يستعدون بالفعل للملك القادم.

والأسوأ من ذلك, للمرة الأولى في حياته, لم يكن غاريث واثقاً من نفسه. كان يرى مصيره طوال حياته واضحاً أمام عينيه. لقد كان متأكداً أنه سيأخذ مكان والده, وأنه سيرفع السيف. لقد اهتزت ثقته في الصميم. الآن, لم يعد واثقاً من شيءٍ أبداً.

الأسوأ من ذلك كله, أنه لم يستطع التوقف عن رؤية صورة وجه والده, لقد ظهرت أمامه قبل أن يرفع السيف تماماً. هل كان هذا انتقاماً منه؟

"برافو," جاء صوت تهكمي.

التفت غاريث, مصدوماً بأنه لم يكن هناك أحد معه في حجرته. لقد عرف الصوت على الفور. كان صوتاً مألوفاً جداً على مر السنين, صوت كان يحتقره دائما. كان صوت زوجته.

وقفت هناك في زاوية بعيدة, تراقبه وهي تدخن الأفيون. سحبت بعمق, ثم سمحت للدخان أن يخرج ببطء. كانت عيناها محتقنة, واستطاع أن يرى أنها كانت تدخن منذ مدةٍ طويلةٍ جداً.

"ماذا تفعلين هنا؟" سأل.

"هذه هي حجرة زفافي بالرغم من كل شيء," أجابت. "أستطيع أن أفعل أي شيء أريده هنا. أنا زوجتك وملكتك, لا تنسى ذلك. أنا أحكم هذه المملكة بقدر ما تفعل. وبعد الكارثة التي قمت بها اليوم, سأستخدم صلاحياتي في الحكم بشكل أوسع. احمر وجه غاريث. كان لدى هيلانة طريقةٌ في تحطيمه, وفي الوقت الغير مناسب. لقد ازرداها أكثر من أيّ امرأةٍ في حياته, لم يكن يصدق أنه وافق على الزواج منها.

"حقا؟" بدأ غاريث بالمشاجرة, وسار نحوها, وهو يغلي. "يبدو أنكِ نسيتِ أنني الملك, أنت مجرد مومس, ويمكنني أن أسجنك في أي وقت, تماماً مثل أي شخص في مملكتي, سواء كنت زوجتي أم لا."

ضحكت في وجهه, مع صوت شخير ساخر.

"ثم ماذا ؟" قاطعته. "هل سيتساءل رعاياك عن حياتك الجنسية ؟ لا, أشك في ذلك كثيراً. ليس في عالم غاريث المليء بالتخطيط. ليس في ذهن الرجل الذي يعتبر رأي الناس به من أولى اهتماماته."

توقف غاريث أمامها, مدركاً أن لديها طريقتها الخاصة في ازعاجه حتى الجنون. لقد فهم تهديدها له, وأدرك أنّ المجادلة معها لن تجلب له أي خير. لذلك وقف هناك بهدوء, ينتظر, وقد شد قبضة يده.

"ماذا تريدين؟" قال ببطء, في محاولة للسيطرة على نفسه. "أنت لا تأتي إلا إذا كنت تريدين شيئا."

ضحكت بسخرية.

"سآخذ كل ما أريد. أنا لن آتِ لأطلب منك أي شيء. بل لأقول لك شيء, لقد شهدت المملكة كلها على فشلك في رفع السيف. إلى أين سيؤدي بنا هذا؟"

"ماذا تقصدين ؟" سألها, متسائلا إلى أين تريد الوصول بهذا الكلام.

"شعبك الآن يعرف ما قد عرفته دائما, أنك فاشل. أنك لست المختار. مبارك, فقد أصبح هذا بشكل رسمي."

عبس وجه غاريث.

"فشل والدي في رفع السيف, لكن ذلك لم يمنعه من الحكم كملك."

"ولكن هذا ألحق الضرر بمملكته," قالت. "في لحظة من فترة حكمه."

"إذا لم تكوني راضيةً عن قدراتي," قال غاريث غاضباً, "لماذا لا تتركين هذا المكان ببساطة ؟ اتركيني! تخلي عن زواجنا السخيف. أنا الملك الآن, لست بحاجة لك."

"أنا ممتنة لأنك طرحت هذه النقطة," قالت, "لأن ذلك ما جئت لأجله بالضبط. أريدك أن تنهي زواجنا رسمياً. أريد الطلاق. هناك رجل أحبه, رجلٌ حقيقي. واحدٌ من فرسانك. في الواقع, إنه محارب. نحن في علاقة حب. حب حقيقي, لا يشبه أي حب قد عرفته من قبل. طلقني, حتى أتمكن من التوقف عن الحب في الخفاء. أريد أن يكون حبنا معلناً, وأريد أن أكون زوجته."

 

حدق غاريث في وجهها, مصدوماً, يشعر وكأن خنجراً قد دخل في صدره للتو. لماذا اعترفت هيلينا بكل هذا؟ لماذا الآن, من كل الأوقات؟ لقد كان ذلك كثيراً عليه. لقد شعر كما لو أن العالم كله يدفع به إلى الأسفل.

لقد تفاجئ غاريث أن لديه بعض المشاعر العميقة لهيلينا, لأنه عندما سمع كلماتها, تطلب الطلاق, أثرت فيه بطريقة ما. كانت مفاجأة له. لقد جعله هذا يدرك أنه لا يريد الطلاق منها. لو كان الطلاق قراره, كان شيئاً مختلفاً, ولكن لأنه قرارها فإنه لا يريد أن يتحقق ما تريده, وليس بهذه السهولة.

الأهم من ذلك كله, تساءل كف سيؤثر الطلاق على منصبه. من شأن طلاق الملك أن يثير الكثير من التساؤلات. لقد وجد نفسه يشعر بالغيرة من هذا الفارس. واستاء من تصريحها بافتقاره للرجولة هكذا في وجهه. أراد الانتقام. من كليهما.

"لن تستطيعي الحصول عليه," قال غاريث. "أنت مرتبطة بي, وستبقين زوجتي للأبد. أنا لن أسمح لك بالخلاص. وإذا قمت باكتشاف هذا الفارس الذي تخونيني معه, سأعرضه للتعذيب وأعدمه."

حدقت هيلينا بغضب.

"أنا لست زوجتك! أنت لست زوجي. لقد كانت علاقة آثمة. من اليوم الذي زُيّفت به. كانت شراكة رُتبت من أجل السلطة. كل شيء يثير اشمئزازي, كان شعوري دائما هكذا. لقد دمرت فرصتي الوحيدة بأن أكون متزوجة."

استنشقت بعض الهواء, وغضبها يزداد.

"ستعطيني الطلاق, أو سأفضح حقيقتك للمملكة بأسرها. عليك أن تقرر."

التفت هيلينا, وسارت عبر الغرفة وخرجت عبر الباب المفتوح, ولم تكلف نفسها عناء إغلاقه وراءها.

وقف غاريث وحده في حجرته. يستمع إلى صدى خطاها ويشعر بقشعريرة تسري في جسده لا يستطيع التخلص منها. أليس هناك أيّ شيء مستقرٌ في حياته يمكن أن يتمسك به بعد الآن؟

بينما وقت غاريث هناك, يرتجف, ويراقب الباب مفتوحاً, فوجئ برؤية شخصٍ آخر يسير نحوه. لقد كان لديه بالكاد وقت لإدراك كلام هيلينا, والتفكير بتهديداتها له, حين اقترب منه وجه مألوف جداً. فيرث. دخل بخطواته المعتادة و نظرة الذنب تعلو وجهه.

"غاريث ؟" سأل, بصوت غير واثق.

حدق فيرث في وجهه, بعينين واسعتين, كان يمكنه ملاحظة أن غاريث بحالة سيئة. لا بد أنه يشعر بالذنب, فكر غاريث. في النهاية, كانت فكرة فيرث بأن يرفع السيف, وقد عمل على إقناعه بها, وهو من جعله يفكر بأنه أكثر مما كان عليه. من دون همسات فيرث, من يعلم ما الذي كان سيحصل؟ ربما لم يكن غاريث سيحاول فعل ذلك أبداً.

التفت غاريث إليه, وهو يغلي. لقد وجد أخيراً من يصب كل غضبه عليه. لقد كان فيرث الشخص الذي قتل والده أيضاً. كان فيرت الصبي الغبي, الذي جلب له كل هذه الفوضى التي بدأت مع مقتل والده. الآن هو مجرد خليفة فاشلة لعائلة ماكجيل.

"أنا أكرهك," اشتعل غضب غاريث. "ماذا عن وعودك الآن؟ ماذا عن ثقتك في أنني سأرفع السيف؟"

"أنا آسف, سيدي," قال "كنت مخطئا".

"لقد كنت مخطئا في الكثير من الأمور," قاطعه غاريث.

في الواقع, كلما فكر غاريث بهذا, كلما أدرك مدى الخطأ الذي ارتكبه فيرث. لو لم يكن هناك فيرث, كان والده ما يزال على قيد الحياة اليوم, ولن يكون غاريث في أي من هذه الفوضى. لن يكون حمل المملكة فوق رأسه, وكل هذه الأمور لم تكن لتسير بشكل خاطئ. لقد كان غاريث يتوق لأيامٍ أبسط, عندما لم يكن الملك, عندما كان والده على قيد الحياة. كان يشعر برغبة مفاجئة لإعادة حياته السابقة كلها, وكل الأمور التي كان معتاداً عليها, لكنه لن يستطيع. وكان لديه فيرث ليلومه على كل ذلك.

"ماذا تفعل هنا ؟" سأله غاريث.

تنحنح فيرث, كان توتره واضحاً.

"لقد سمعت إشاعات.. ثرثرات... من كلام الخدم. وصلني كلام أن أخاك وأختك يسألان الأسئلة. لقد شوهدوا في أماكن الخدم. يبحثون عن سلاح الجريمة في مزلق النفايات, عن الخنجر الذي استخدمته في قتل والدك."

أصبح جسد غاريث بارداً حين سمع كلماته, لقد تجمد في حالة صدمة وخوف. هل يمكن لهذا اليوم أن يسوء أكثر؟

"وماذا وجدوا ؟" سأل, كان حلقه جاف , والكلمات تخرج منه بصعوبة.

هز فيرث رأسه.

"أنا لا أعرف يا سيدي, كل ما أعرفه هو أنهم يشكون بشيء ما."

شعر غاريث بالكراهية تتجدد نحو فيرث, كراهيةً لم يعرف من قبل أنه سيشعر بها تجاهه. لو أنه يستطيع التخلص من تصرفاته الخرقاء, لو أنه تخلص من السلاح بشكل صحيح, لما كان في هذا الموقف. لقد تركه فيرث عرضة للخطر.

"سأقول هذا لمرة واحدة فقط," قال غاريث, وهو يقترب من فيرث, ومن وجهه بالتحديد, وهو يحملق بغضب شديد مع أقوى نظرة لديه. "لا أريد أن أرى وجهك مرة أخرى. هل تفهم؟ اتركني ولا تعد أبداً. سأقصيك إلى مكان بعيد من هنا. وإذا وطأت قدماك أرض هذه القلعة مرة أخرى, سأقوم باعتقالك.

"غادر الآن!" صرخ غاريث.

فيرث, بعينين دامعتين, التفت وهرب من الغرفة, راكضاً.

عاد تفكير غاريث إلى السيف, ومحاولته الفاشلة. لم يكن متأكداً ولكنه شعر كما لو كان قد ورط نفسه في مصيبةٍ كبيرة. لقد شعر كما لو كان قد دفع بنفسه إلى الهاوية, ومن هذه اللحظة, سيقف فقط ويواجه مصيره.

كان واقفاً هناك, والصمت يسود المكان, في حجرة أبية, يرتجف, ويتساءل عن ما يخبئه القدر له. لم يشعر من قبل بهذه الوحدة, لم يكن واثقاً من نفسه.

هل هذا ما يعنيه أن يكون ملكاً؟

سارع غاريث نحو السلم الحلزوني, يصعد الطابق تلو الآخر, يسرع خطاه نحو شرفات القلعة العلوية. كان يحتاج إلى الهواء النقي. يحتاج إلى الوقت والتفكير. كان يحتاج إلى نقطة يراقب منها مملكته, فرصة لرؤية بلاطه, شعبه, ويذكّر نفسه بأن كل هذا ملكه. بأنه وعلى الرغم من كل الكوابيس التي عاشها اليوم, كان في النهاية, لا يزال الملك.

كان غاريث قد صرف مرافقيه وركض وحده, يصعد الدرج تلو الآخر, وهو يتنفس بصعوبة. توقف عند واحد من الطوابق, انحنى وأنفاسه تشتعل. كانت الدموع تنهمر على وجنتيه. كان لا يزال يرى وجه والده, يوبخه عند كل منعطف.

"أنا أكرهك!" صرخ في الهواء.

كان يكاد يقسم أنه سمع أحداً يرد عليه بالاستهزاء والضحك. سمع ضحك والده.

كان غاريث يحتاج إلى الابتعاد عن هنا. التفت وواصل الجري والركض, حتى وصل أخيراً إلى الأعلى. فتح الباب بقوة, واندفع هواء الصيف النقي إلى وجهه.

تنفس عميقاً, وهو يلهث, تحت ضوء الشمس, والنسائم الدافئة. خلع عباءته, عباءة والده, ورمى بها إلى الأرض. كان الجو حاراً ولم يعد يريد هذه الثياب بعد الآن.

سارع إلى حافة الشرفة وأمسك السور الحجري وهو يتنفس بصعوبة, ويراقب مملكته. كان يرى حشداً ليس له نهاية, يخرج من القلعة. كانوا يغادرون الحفل, حفله. لقد استطاع رؤية خيبة أملهم من هنا. لقد بدوا صغار جداً. وتعجب أنهم كانوا جميعاً تحت سيطرته.

ولكن إلى متى؟

" أمور الحكم مضحكة فعلاً," ظهر صوت قديم.

التفت غاريث ورأى, مدهوشاً, أرجون واقفاً هناك, على بعد أمتار, يرتدي عباءة بيضاء وغطاءً, ويحمل أشياءه بيده. كان يحدق فيه, وقد رسم ابتسامة على زاوية شفتيه, ولكن عينيه لم تبتسما. كانتا متوهجتين, كان يحدق في وجهه تماماً, وقد أصابتا غاريث بالرعشة. لقد رأى عبرهما الكثير.

كان هناك الكثير من الأمور التي أراد غاريث أن يسألها لأرجون. لكن الآن بعد أن فشل برفع السيف, لم يكن يتذكر واحدة منها.

"لماذا لم تخبرني؟" ناشد غاريث واليأس في صوته. "كنت تستطيع إخباري بأنني لست المختار. كنت وفرت علي العار والخزي."

"ولماذا أفعل ذلك ؟" سأل أرجون.

عبس غاريث.

"أنت لست مستشاري الحقيقي," قال. "كنت تنصح والدي, أما أنا فلم تفعل."

ازداد غضب غاريث. كان يكره هذا الرجل, وكان يلومه بشدة.

"أنا لا أريدك حولي," قال غاريث. "أنا لا أعرف لماذا وظفك والدي هنا, ولكن أنا لا أريد وجودك في بلاط الملك."

ضحك أرجون, بصوت أجوف مخيف.

"لم يوظفني والدك, أيها الصبي الأحمق," ردّ أرجون. "لا والدك ولا من كان قبله, إن وجودي هنا متعمّد. في الواقع, يمكنك القول أنني أنا من وظفتهم."

تقدم أرجون فجأة خطوة إلى الأمام, وبدا كما لو كان يحدق في روح غاريث.

"هل يمكننا أن نسأل السؤال نفسه عن وجودك هنا؟" سأل أرجون. "هل من المفترض أن تكون هنا ؟"

ضربت كلماته وتراً حساساً عند غاريث, بعثت البرد في جسده. كان الشيء ذاته الذي يسأله غاريث لنفسه, وتساءل غاريث إذا كان ذلك تهديداً.

"من يحكم بالدم سيُحكم عليه بالدم," أعلن أرجون, ومع تلك الكلمات, التفت بسرعة وبدأ في الابتعاد.

"انتظر!" صرخ غاريث, لم يعد يريده أن يذهب, كان يحتاج إلى إجابات. "ماذا تقصد بذلك؟"

لم يكن غاريث متأكداً ولكنه شعر بأن أرجون يعطيه رسالة, رسالةً بأنه لن يحكم طويلاً. كان يحتاج إلى معرفة ما إذا كان هذا ما كان يعنيه.

ركض غاريث وراءه, ولكنه حين اقترب, اختفى أرجون أمام عينيه.

التفت غاريث, نظر حوله, ولكن لم يرى شيئا. سمع صوت ضحك أجوف فقط, في مكان ما في الهواء.

"أرجون!" صرخ غاريث.

التفت مرة أخرى, ثم نظر إلى السماء, انحنى على ركبة واحدة ورمى رأسه إلى الخلف. وصرخ:

"أرجون!"

الفصل السابع

سار ايريك إلى جانب الدوق براندت والعشرات من حاشية الدوق, عبر شوارع سافاريا المتعرجة, يتزايد الحشد وراءهم كما يذهبون, نحو بيت الخادمة لقد أصرّ إيريك على لقاءها بدون تأخير, وكان يريد أن يقود الدوق طريقهم شخصياً. وأين يذهب الدوق, يذهب الجميع, نظر ايريك حوله إلى الحاشية الضخمة والمتنامية, وشعر بالحرج, حين أدرك أنه سيصل إلى منزل الفتاة مع عشرات الأشخاص من حوله.

منذ رآها للمرة الأولى, لم يستطع ايريك التفكير بشيءٍ سواها. من كانت هذه الفتاة, تساءل, لقد بدت من عائلة نبيلة, ولكنها تعمل في بلاط الدوق كخادمة ؟ لماذا هربت منه على عجل ؟ لماذا كان ذلك, خلال سنوات حياته كلها, ومع كل النساء النبيلات اللاتي التقاهن, كانت هي الوحيدة التي أسرت قلبه ؟

لقد كان في قصر الملك طوال حياته, وهو ابن الملك نفسه, كان يمكن له أن يكشف النبلاء الآخرين في لحظة, وقد شعر منذ اللحظة الأولى أنها كانت أكثر بكثير من المكان الذي هي فيه. كان يحترق من الفضول لمعرفتها, ومن أين كانت, وما الذي تفعله هنا. كان يحتاج إلى فرصةٍ ليركز عينيه عليها, ليرى إذا ما كانت كما تخيل و إذا كان لا يزال يشعر بالطريقة نفسها تجاهها.

"لقد قال لي الخدم أنها تعيش على مشارف المدينة," أوضح الدوق, ويتحدث وهم يتابعون السير. كما ذهبوا, كان الناس يفتحون أبوابهم على جانبي الشوارع وينظرون. مندهشين من وجود الدوق والحاشية المرافقة له في الشوارع العامة.

"على ما يبدو, هي خادمة في إحدى الخانات عندنا. لا أحد يعرف أصلها. من أين جاءت. كل ما نعرفه أنها وصلت إلينا في يوم ما, وأصبحت خادمة بالسخرة. على ما يبدو أن ماضيها, لغز."

ساروا جميعهم إلى شارع جانبي آخر, حيث أصبحت الحصا تحت أقدامهم أكثر اعوجاجاً, والمساكن صغيرة ومتهالكة وأقرب إلى بعضها البعض.

تنحنح الدوق.

" لقد أخذتها كخادمة في البلاط في مناسبات خاصة. إنها هادئة, ومنطوية على نفسها لا أحد يعرف عنها الكثير يا إيريك," قال الدوق, ملتفتاً أخيراً إلى إيريك, ووضعاً يده على معصمه," هل أنت متأكدٌ بشأن هذا الموضوع؟ هذه المرأة, أيّاً كانت هي, فهي فتاة أخرى من العامة. يمكنك اختيار أي امرأة من المملكة."

نظر ايريك إليه.

"يجب أن أرى هذه الفتاة مرة أخرى, لا يهمني من هي."

هز الدوق رأسه باستنكار, وواصلوا جميعهم السير, يتجاوزون الطريق بعد الآخر, عبر أزقة ملتوية وضيقة. كلما كانوا يتابعون السير, كانت أحياء سافاريا تزداد قذارة, وتمتلئ الشوارع بالسكارى, والدجاج والكلاب يجولون حولهم. مروا بالحانة بعد الأخرى, وصرخات الرجال تسمع من الخارج. تعثر عدة سكارى أمامهم, وعندما حلّ الليل, بدأت الشوارع تنار بواسطة المشاعل.

"افتحوا طريقاً للدوق!" صاح مرافقه, وهرع إلى الأمام, دافعاً السكارى بعيداً عن الطريق. في كل شارع كان هناك أناس بغيضون يشاهدون بدهشة, مرور الدوق وإيريك بجانبه.

أخيراً وصلوا إلى نزلٍ متواضع صغير, مبنيٍّ من الجص, مع سقف حجري. بدا الأمر كما لو أنها تحتوي خمسين نزيل, مع عدد قليل من الغرف داخله. كان الباب الأمامي ملتوٍ, وقد كُسرت إحدى النوافذ, ومصباح المدخل قد علق باعوجاج, وشعلته تخفق باستمرار, بضوئها الخفيف جداً. تسربت صيحات السكارى من النوافذ, بينما كانوا يقفون جميعهم أمام الباب.

كيف يمكن لفتاةٍ جميلةٍ أن تعمل في مكان مثل هذا؟ تساءل إيريك برعب, حين سمع صراخ وصيحت الاستهجان من الداخل.

لقد كُسر قلبه حين فكر بذلك, وتخيل الإهانة التي تعاني منها في هذا المكان. هذا ليس عدلاً, فكر إيريك. كان يشعر أنه عازم على إنقاذها.

"لماذا أتيت إلى أسوأ مكانٍ لتختار عروسك منه ؟" سأل الدوق موجها سؤاله إلى ايريك.

التفت براندت نحوه أيضاً.

"هذه آخر فرصة يا صديقي," قال براندت. "هناك قلعة ممتلئة بالنساء النبيلات تنتظر عودتك إلى هناك."

لكن ايريك هز رأسه, رافضاً.

"افتح الباب," أمر إيريك.

هرع رجال الدوق إلى الأمام وقاموا بخلع الباب, انتشرت رائحة البيرة من الداخل, بشكل منفّرٍ للغاية.

في الداخل, كان الرجال السكارى منحنين فوق العارضة, يجلسون على طاولات خشبية, ويهتفون بصوت عالٍ جداً, يضحكون, ويلقون السباب ويتصارعون مع بعضهم البعض. كانوا من طبقة الخدم, كان يمكن لإيريك معرفة ذلك بنظرة واحدة, ببطونٍ كبيرة جداً وخدين غير حليقين, وملابس غير مغسولة. لم يكن أحدهم محارباً.

تقدم ايريك عدة خطوات, يبحث عنها في المكان. لم يكن يتصور أن تعمل امرأة مثلها في مثل هذا المكان. وتساءل عما إذا كانوا قد جاؤوا إلى نزل خاطئ.

"عفوا يا سيدي, أنا أبحث عن امرأة," قال ايريك لرجل يقف بجانبه, طويل القامة, واسع الكتفين, مع بطنٍ كبيرة, غير حليق.

"أنت كذلك إذاً؟" صاح الرجل ساخراً. "حسناً, لقد أتيت إلى المكان الخطأ! هذا ليس بيت دعارة. هناك واحد في هذا الشارع- وسمعت أن النساء هناك جيدات وممتلئات!"

بدأ الرجل يضحك بصوت عالٍ جداً, في وجه ايريك , بينما انضم إليه العديد من رفاقه.

"ليس مطلبي بيت دعارة," أجاب ايريك, غير مسرور, "ولكن أبحث عن امرأة محددةٍ, تعمل هنا."

"لا بد أنك تعني خادمة النزل," قال شخصٌ آخر, كان رجلاً ضخماً آخر في حالة سكر. "إنها على الأرجح في الخلف في مكان ما, تنظف الأرض. هذا سيءٌ جداً- كنت أتمنى لو كانت هنا, في حضني!"

ضحك الرجال جميعهم بصوت عالٍ, وقد احمر وجه إيريك من التفكير بذلك. كان يشعر بالخجل لأجلها. بأن تكون مجبرة على خدمة كل هذه الأنواع, كانت إهانة كبيرة له.

"ومن أنت ؟" جاء صوت آخر.

تقدم رجل إلى الأمام, أضخم من الآخرين, ذو لحيةٍ وعيونٍ داكنة, فك واسع, متهجم الوجه ويرافقه عدد من الرجال القذرين. كان يملك عضلاتٍ أكثر من الدهون, اقترب من ايريك مهدداً, كان من الواضح أنه ريفيّ.

 

"هل تحاول سرقة خادمتي ؟" سأله بغضب. "اخرج من هنا اذن!"

تقدم إلى الأمام محاولاً الوصول إلى إيريك.

لكن ايريك, محصّنٌ بسنواتٍ من التدريب, أعظم فارس في المملكة, كانت ردة فعله أقوى من أن يتخيله هذا الرجل.

باللحظة التي لمس فيها إيريك بيديه, اندفع ايريك, ولوى معصمه بقوة, نظر إلى الرجال حوله بسرعة البرق, ثم أمسكه من الخلف من قميصه, ودفعه عبر الغرفة.

حلق الرجل الكبير ككرة مركولةٍ بقوة, وأخذ معه عدة رجال, وسقطوا جميعهم على الأرض في مكان صغير كأنهم قوارير بولينج.

ساد الصمت الغرفة بأكملها, بينما توقف كل الرجال يشاهدون ما حدث.

"قتال! قتال!" هتف الرجال.

وقف صاحب النزل متعثراً, وهو في حالة ذهول واندفع نحو ايريك مع صيحة.

هذه المرة ايريك لم ينتظر, تقدم إلى الأمام لمواجهة مهاجمه, رفع ذراعه, وضربه بكوعه مباشرة على وجهه, وكسر أنفه.

تعثر صاحب النزل إلى الخلف, ثم انهار وسقط على الأرض على مؤخرته.

تقدم ايريك إلى الأمام, التقطه, على الرغم من حجمه, ورفعه عالياً فوق رأسه. تقدم عدة خطوات إلى الأمام ورمى الرجل, طار الرجل في الهواء, وأخذ نصف الغرفة معه.

وقف الرجال مندهشين وقد توقف هتافهم, وبدأوا يدركون أن هناك شخص مميزاً بينهم. اندفع الساقي, رغم ذلك, إلى الأمام فجأة, يمسك بزجاجة فارغة, وقد رفعها فوق رأسه, ووجهها نحو ايريك.

رأى ايريك أنه قادم وكان قد وضع يده على سيفه مسبقاً, ولكن قبل أن يستطيع ايريك اخراجه, تقدم صديقه براندت إلى الأمام, إلى جانبه, وأخرج خنجره من حزامه, ووجهه نحو حلق الساقي.

ركض الساقي نحوه مباشرة ثم توقف متجمداً, والنصل على وشك أن يثقب جلده. كان واقفاُ هناك, وعيونه قد جحظت من الخوف, يتعرق, وقد تجمدت يده في الهواء ممسكة بالزجاجة. ساد الصمت في الغرفة حتى أنك تستطيع سماع رنين الإبرة فيها.

"اترك هذا," أمره براندت.

فعل الساقي ذلك, وتحطمت الرجاجة على الأرض.

استل إيريك سيفه مع رنين معدني مدوي وسار نحو صاحب الحانة, الذي كان يأنّ وهو ممددٌ على الأرض, وجه سيفه نحو حنجرته.

"سأقول هذا مرة واحدة فقط," قال ايريك. "امسح هذه الغرفة من كل هذا الدماء, الآن. سأطلب مقابلة السيدة. وحدها."

"الدوق!" صاح شخص ما.

التفت كل من في الغرفة وتعرفوا أخيراً على الدوق, كان واقفاً هناك, عند المدخل, يحيط به رجاله. هرع الجميع إلى خلع قبعاتهم وأحنوا رؤوسهم إجلالاً.

"إذا لم تكن الغرفة فارغة بالوقت الذي سأنهي فيه كلامي," أعلن الدوق, "سيسجن كل منكم في آن واحد."

اندلع الجنون في أرجاء الغرفة و قد هرع الرجال إلى إخلاءها, يسارعون أمام الدوق للخروج من الباب الأمامي, وقد تركوا زجاجات الجعة التي لم يكملوها.

"واخرج أنت أيضاً," قال براندت للساقي, وقد أبعد خنجره, ثم أمسكه من شعره ودفع به خارج الباب.

الغرفة التي كانت صاخبة جداً قبل لحظات, أصبحت الآن فارغة, صامتة, باستثناء ايريك, برانت, ديوك, واثنا عشر من رجاله المقربون, أغلقوا الباب خلفهم مع صوت مدوي.

التفت ايريك إلى صاحب الحانة, وقد جلس على الأرض, وهو لا يزال مذهولاً, وقد مسح الدم عن أنفه. أمسك به إيريك من قميصه, رفعه بكلتا يديه, وأجلسه على أحد المقاعد الفارغة.

"لقد دمرت عملي هذه الليلة." قال صاحب الحانة وهو ينتحب. "سوف تدفع ثمن ذلك."

تقدم الدوق إلى الأمام ورفع يده مهدداً.

"يمكنني أن أقتلك لمحاولتك لمس هذا الرجل," وبخه الدوق. "هل تعرف من هو هذا؟ هذا إيريك, أفضل فارس في المملكة, بطل فرقة الفضة. لو أنه اختار, كان بإمكانه قتلك بنفسه, الآن."

نظر صاحب الحانة إلى إيريك, وللمرة الأولى, بدا خوفٌ حقيقي على وجهه. لقد ارتعد في مقعده.

"لم يكن لدي فكرة, أنت لم تعرف عن نفسك."

"أين هي؟" سأل إيريك, وقد نفد صبره.

"إنها في الخلف, تنظف المطبخ. ما الذي تريده منها؟ هل سرقت شيئاً ما منك؟ إنها مجرد خادمة أخرى."

أخرج إيريك خنجره ووجهه نحو حنجرة الرجل.

"لن تدعوها بالخادمة مرة أخرى," حذر ايريك," ويمكنك أن تكون على يقين بأنني سوف أقتلك. هل تفهم؟" قال إيريك بشدة بينما كان نصل الخنجر على حلق الرجل.

غمرت الدموع عيون الرجل, بينما أومأ ببطء.

"أحضرها إلى هنا, بسرعة," قال إيريك, وانتزعه من الأرض ليقف على قدميه, ثم دفعه عبر الغرفة نحو الباب الخلفي.

حين خرج صاحب الحانة, سُمع صوت رنين الأواني من وراء الباب, وصراخ بعيد, ثم بعد لحظات, فتح الباب, وخرج العديد من النساء يرتدين الخرق, الأرواب والأغطية, وقد غطت دهون المطبخ ملابسهن. كانت هناك ثلاث نساء أكبر سنا من البقية, في الستينات, وتساءل ايريك للحظة إذا عرف صاحب الحانة عن من كان يتحدث.

بعد ذلك, خرجت الفتاة, وتوقف قلب ايريك في صدره.

كان بالكاد يستطيع التنفس, لقد كانت هي.

كانت تلبس مئزرا, مغطى ببقع الشحوم, وقد أبقت رأسها منخفض, خجلةً من النظر. كان شعرها مربوطاً, ومغطى بقماش, وقد غطا خديها الأوساخ, انكسر قلب ايريك لرؤيتها هكذا. كانت بشرتها شابةً للغاية, ورائعةً جداً. كانت خدودها عاليةً ومنحوتة, و عظام فكيها بارزةٌ قليلاً, وأنفها صغير يغطيه النمش, وشفاهها ممتلئة. كان لديها جبهة عريضة ملكية, وقد نزل شعرها الأشقر الجميل من تحت غطاء رأسها.

اختلست نظرة عليه, لمجرد لحظة, كان لها عينان لوزيتان بلون أخضر, يتغير لونهما تحت الضوء, ويتحولان إلى الأزرق الكريستالي ثم يعودان للونهما مرة أخرى, لقد سلبا عقله بجمالهما. لقد تفاجأ حين أدرك أنه كان مفتوناً أكثر بها مما كان عليه حين رآها للمرة الأولى.

جاء من وراءها صاحب الحانة, مقطباً, وما يزال يسمح الدم عن أنفه. تقدمت الفتاة قليلاً نحو ايريك, وقد أحاط بها النسوة الأكبر سناً, انحنت حين اقتربت منه. ارتفع ايريك, واقفاً أمامها, كما فعل العديد من حاشية الدوق.

""سيدي," قالت, بصوتها الناعم, الجميل, الذي ملء قلب ايريك. "من فضلك, هل يمكن أن تقول لي ماذا الذي أخطأت به تجاهك. أنا لا أعرف ماذا فعلت, ولكن أنا آسفة لأيّ شيءٍ قمت به ولأنني تسببت بمجيء الدوق إلى هنا."

ابتسم ايريك. كلماتها, لغتها, صوتها. كل ذلك جعله يشعر بأنه لا يريد أن تتوقف عن الكلام.

اقترب ايريك ومسك ذقنها بلطف, رفعه حتى التقت أعينهما. تسارعت دقات قلبه وهو ينظر في عينيها. كان وكأنه يتخبط في بحر من اللون الأزرق.

"سيدتي, أنتِ لم تفعلي شيئاً مسيئاً. أنا لا أعتقد أنك قادرة على أن تسيئي لأحدٍ على الإطلاق. لقد جئت إلى هنا ليس بدافع الغضب, ولكن بدافع الحب. منذ رأيتك, لم أعد قادراً على التفكير في أي شيء آخر."

بدا الارتباك على الفتاة, أخفضت رأسها, ورمشت بعيونها عدة مرات. كانت تلوي يدها وتنظر بتوتر. كان من الواضح أنها غير معتادة على هذا.

"من فضلك سيدتي, أن تقولي لي. ما اسمك؟"

"أليستر," أجابت, بتواضع.

"أليستر," كرر ايريك, كان أجمل اسم سمعه في حياته.

"لكن أنا لا أعرف إذا كان ينبغي أن تعرف هذا," أضافت بهدوء, وهي ما تزال تنظر إلى الأرض. "أنت سيد, وأنا مجرد خادمة."

"وهي خادمتي, على وجه الدقة." قال صاحب الحانة, وهو يتقدم إلى الأمام بقذارة. "إنها ملزمة بالعمل عندي. لقد وقعت اتفاق, منذ سنوات. لقد وعدت بسبع سنين. وفي المقابل, أعطيها الطعام والمسكن. لقد مضت ثلاث سنوات. لذلك كما ترى, فهذا كله مضيعة للوقت. هي ملكي. وأنا مالكها. لن تأخذها بعيداً. هي ملكي. هل تفهم؟"

شعر ايريك بكراهية تجاه هذا الرجل, لم يشعر بها من قبل. كان جزءٌ من عقله يخبره بأن يرفع سيفه ويطعنه في قلبه وينتهي من أمره. ولكن مهما كان هذا الرجل يستحق ذلك, لا يريد أن يخرق قانون الملك. في النهاية, أفعاله كلها تنعكس على الملك.

"قانون الملك هو قانون الملك," قال ايريك للرجال, بحزم. "أنا لا أنوي خرقه. والقانون يقول, أن البطولات تبدأ غداً. ويحق لي كأيّ رجل, اختيار عروستي. وليكون الجميع على علمٍ أنني هنا والآن اخترت أليستير."

التفت الجميع إلى بعضهم البعض, مصدومين.

"هذا إذا," أضاف ايريك, "إذا وافقَت."

نظر ايريك إلى أليستير, وقلبه يقصف, بينما كانت ما يزال رأسها منخفض. كان يرى أن وجهها قد احمر.

"هل توافقين, سيدتي؟" سأل.

"سيدي," قالت بهدوء. "أنت لا تعرف شيئاً عني, من أنا, من أين أنا, لماذا أنا هنا. أخشى أنني لا أستطيع إخبارك بهذه الأمور."

حدّق ايريك, في حيرة.

"لماذا لا يمكنك إخباري؟"

"لم يسبق لي أن أخبرت أحد منذ وصولي, لقد كان نذراً."

"ولكن لماذا؟" ألح, مستغربا للغاية.

لكن أليستير أبقت عيونها منخفضة وصامتة.

"هذا صحيح," تدخلت واحدة من النسوة. "هذه الفتاة لم تخبرنا من هي, أو لماذا هي هنا. لقد رفضت ذلك, لقد حاولنا لسنوات."

وقع ايريك في حيرة كبيرة ولكن هذا كان جزءاً من غموضها.

"إذا لا ينبغي أن أعرف من أنت, إذا لا يجب علي ذلك," قال ايريك. "فأنا أحترم نذرك. ولكن ذلك لن يغير حبي لك. سيدتي, كائناً من كنت, إذا فزت بهذه البطولات, سأختار فتاة تكون عروسة لي. وهذه الفتاة هي أنت, من نساء العالم أجمع. أطلب منك مرة أخرى, هل توافقين؟"

أبقت أليستير عيناها ثابتتين على الأرض, وبينما كان ايريك يشاهدها, رأى الدموع تنهمر على خديها.

فجأة, التفت وهربت من الغرفة, وأغلقت الباب خلفها.

وقف ايريك هناك, مع الآخرين, مذهولاً. لا يعرف كيف يفسر ردها.

"أنت ترى إذاً, إنك تضيع وقتك, ووقتي." قال صاحب الحانة. "لقد قالت لا. اخرج من هنا إذاً."

عبس ايريك في وجهه.

"ولكنها لم تقل لا," قال براندت. " لم تجب فقط."

"يحقّ لها أن تأخذ وقتاً للتفكير," قال ايريك, مدافعاً عنها. "بعد كل شيء, هناك الكثير لتفكر به, إنها لا تعرفني, أيضاً."

وقف ايريك هنا, يفكر بما يجب القيام به.

"سأبقى هنا الليلة," أعلن ايريك أخيراً. "يجب عليك أن تعطيني غرفة هنا, تحت غرفتها. في الصباح, قبل بدء البطولات, سأسألها مرة أخرى. إذا وافقت, وإذا فزت, يجب أن تكون عروسي. إذا حصل هذا, سأدفع ثمن خروجها من خدمتك, ويجب حينها أن تغادر المكان هذا معي."